قبل فترة من الزمن سألت أحد زملائي عن سبب توقف ظهور المزيد من جهابذة الأدب والشعر العربي مثل أحمد شوقي ونجيب محفوظ، وللوهلة الأولى جادل زميلي بأنه يوجد فلان وفلان من المعاصرين ولكن بعد نقاش قصير أقنعته بأن فلان وفلان من المعاصرين هم شعراء وأدباء متميزون لكن لا يمكن مقارنتهم بعبقرية شوقي ونظرائه من الأدباء في تلك الحقبة الزمنية وما قبلها، ثم اتفقنا على أنه يوجد فجوة لدينا في إنتاج أمثال هؤلاء العباقرة في زمننا الحاضر على الرغم من أننا لم نصل إلى أية مؤشرات إلى سبب تلك المشكلة.
مؤخراً وقعت على هذا المنشور الذي عنوانه “لماذا لم نعد نصنع المزيد من أمثال آينشتاين؟” وأسعدني جداً اكتشاف أنني لست الوحيد الذي يتساءل عن هذه الظاهرة، ولكنني لاحظت أيضاً مدى الجدل الواسع الذي أثارته الأفكار والاستنتاجات المطروحة فيه من حيث الموافقة والمعارضة.
إليكم بعض اللمحات من هذا المنشور المثير للجدل:
- إن كانت العبقرية مجرد مسألة قدرة وراثية، فعندئذ وفي القرن الماضي، حيث زاد عدد سكان العالم بشكل كبير، ومع ارتفاع مستوى التعليم الجماعي، ومع التقلص الكبير في الحواجز العرقية والجندرية في جميع أنحاء العالم، وانتشار المعلومات المجانية التي أشبعت مجتمعاتنا، فإنه كان من الأولى أن نشهد طفرة في العبقرية يصاحبها ظهور أفضل العباقرة من علماء الرياضيات والعلوم والفنون وغيرها. ومع ذلك، فإن هذه التغييرات الفعلية العظيمة لم تنتج أي تأثير، بل ربما على العكس تماماً من الممكن أن تكون السبب في تدهور العبقرية والعباقرة.
- غياب العبقرية يمثل مشكلة كبيرة. الاستنفاد الثقافي والفكري العالمي خطر وجودي على بقاء البشرية على المدى البعيد، والعباقرة هم من يمنعون ذلك من الحدوث. فهم يقومون بالتجديد والتنشيط ولا يجب علينا أن نخجل من الاعتراف بذلك.
- إذن ، أين كل العباقرة من أمثال آينشتاين؟ الجواب يجب أن يكمن في النظام التعليمي في مكان ما.
- النتاجات التعليمية والقدرات لا تتأثر بشكل ملحوظ بنوعية المدرسة ومستواها (خاصة/حكومية ، تجمع فقير/ تجمع غني).
- التعليم الخصوصي ضمن النظام المدرسي يؤدي إلى الارتفاع في مستوى التحصيل الأكاديمي بمقدار انحرافين معياريين عن المتوسط الحسابي، وفقاً لدراسة أجراها الباحث بنجامين بلوم في ثمانينيات القرن الماضي (تأثير سيغما الثنائي).
- هنالك نموذج من التعليم الخصوصي كان يتم في القديم ولتمييزه عن التعليم الخصوصي بشكله الحالي لنقم بتسميته “التعليم الأرستقراطي”. لم يركز التعليم الأرستقراطي على التعليم لأجل الاختبارات القابلة للقياس، بل تاريخيًا كان يتضمن عادةً مدرسًا أو مربياً بالغًا مدفوع الأجر، خبير في هذا المجال حيث يقضي وقتًا طويلاً مع الطفل صغير أو المراهق يوجهه ويشاركه في المناقشات التي غالبًا ما كانت تتم بشكل مباشر، مما يعزز المعرفة لدى المتعلم كما يعزز التعامل مع الموضوعات والمجالات الفكرية المتنوعة.
- الغالبية العظمى من العباقرة في عصور النهضة كانوا نتاجاً للتعليم الأرستقراطي.
- أمثلة على بعض العظماء الذين تلقوا التعليم الأرستقراطي: برتراند راسل، فولتير، الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس، ديكارت، جون ستيوارت ميل، كارل ماركس، غوته.
- من المحتمل أن يكون أحد العوامل المساهمة في ظاهرة انتشار العبقرية في العائلات هو أن أفراد العائلة العبقرية يعملون كمعلمين أرستقراطيين، ويشجعون التعلم، ويشجعون حياة العقل، ويغرسون السعي وراء الألغاز وحل المشاكل في الطفل الصغير.
- ماذا عن آينشتاين؟ تؤكد حالة آينشتاين على فطرية العبقرية، وقدرتها على القدوم من أي مكان أو مصدر، حتى من كاتب براءات اختراع متواضع حيث أن هناك قصة عن حصوله على درجات منخفضة في المدرسة الإعدادية، ولكن اتضح أن معظم المصادر عن تعليم آينشتاين المدرسي مبالغ فيها أو ملفقة، وأن آينشتاين كان لديه عدة معلمين في مواد مثل الرياضيات والفلسفة ، مثل عمه، جاكوب أينشتاين الذي علمه الجبر. وفي الواقع كان هناك معلم عائلة لآينشتاين اسمه ماكس تالمود.
- لا أقول أن التعليم الأرستقراطي هو السبيل الوحيد للعبقرية، فهناك أشخاص مثل رامانوجان والذي كان أحد أعظم العقول الرياضية في كل العصور، والذي كان والده كاتبًا حيث أن رامانوجان لم يحصل على التعليم الأرستقراطي بشكله الصريح إلا أن منزل والده قد استضاف العديد من الطلاب الجامعيين والذين – كما قيل – ربما قاموا بشكل غير رسمي بدور شبيه بالتعليم الأرستقراطي .
- السبب التقليدي الذي يفسر أن جميع النتاج الفكري في عصور النهضة قادم من الأرستقراطيين هو أنهم كانوا الأشخاص الوحيدين الذين لديهم رفاهية وقت الفراغ اللازم للتفكير وإجراء العمليات العقلية. ولكن ماذا لو لم يكن الأمر يتعلق فقط بالرفاهية والمستوى الاجتماعي، ولكن أيضًا يتعلق بأسلوب تعليمي لم يعد محبوبًا (التعليم الأرستقراطي)؟
- من المؤكد أن تناقص العبقرية يتزامن مع نهاية الطبقة الأرستقراطية حيث تحتل أوروبا مكانة كبيرة في عدد العباقرة في التاريخ ولأسباب عديدة ولكن أهمها تقليدها الممتد لقرون من الأرستقراطيات المدروسة والذي امتد إلى وقت متأخر جدًا من العصر الحديث.
- نظام التعليم في العالم حالياً يعتمد كليًا على الحتمية الجينية، حيث يولد الطفل ومن المفترض أن يكون لديه سمات فطرية، بما في ذلك على سبيل المثال تفضيل ما يريد أن يكون عندما يكبر، ثم يتم إلقاء الطفل في النظام المدرسي، وهو نظام جدارة أكاديمي تنافسي ملفوف في بيروقراطية هرمية منفرجة، وهي بنية يقضي فيها الأطفال معظم حياتهم اليافعة، مجبرين على التعلم في الغالب من أقرانهم، الذين لا يعرفون سوى القليل مثلهم.
- أول المفكرين الحقيقيين الذين يلتقي بهم معظم الأطفال شخصيًا هم أساتذتهم الجامعيون – في سن الثامنة عشرة وهم عالقون في فصل مع عشرات الأشخاص الآخرين (حتى في جامعة هارفارد ، غالبًا ما تكون الدورات التمهيدية بالمئات). فهل من المستغرب أن مثل هذه الأساليب لا تنتج عباقرة بشكل فعلي؟
- لقد عزلنا الأطفال عن العقول العظيمة.
- الانتشار الواسع والمجاني للمعلومات على الإنترنت لم يسهم في إنتاج العباقرة في عصرنا الحديث، فالأهم من الوصول إلى المعلومات هو المشاركة المبكرة في الموضوعات الفكرية من خلال التفاعل البشري مع البالغين الذين يمكنهم منحهم الاهتمام الفردي والذين يشكلون لهم نموذجاً للمشاركة الفكرية الجادة.
- هل يمكن للتكنولوجيا أن تدخل في عملية الإنقاذ مرة أخرى؟ ربما لا يجب أن تكون الدروس الأرستقراطية للأرستقراطيين فقط. أظهرت الأبحاث الحديثة تأثير سيغما الثنائي للدروس الخصوصية باستخدام معلمي الذكاء الاصطناعي مقارنة بالدورات التقليدية عبر الإنترنت. ربما في المستقبل يمكن أن نتخيل مربيات ذكاء اصطناعي مخصص. ولكن بحلول ذلك الوقت، هل سنحتاج حتى إلى عباقرة بشريين؟